يقول الإسلاميون إن نجاح البلاد لا يمكن إلا بمرجعية الدين الإسلامي. وهمْ يستدعون الدين كلما تطلب الصراع السياسي ذلك، مثلما استدعوا جمعة الشريعة أخيراً قبل الاستفتاء رغم أنهم - (الإخوان تحديداً) - سكتوا عن قصة الشريعة منذ مليونية قندهار في يوليو 2011. ورغم إنه في الحقيقة لم يتهدد الشريعة ممثلة في المادة الثانية التي يحبونها أي أمر، بل كانت معركة وهميّة، وسلمّت معظم القوى العلمانية بوجود المادة الثانية، سواءً عن قناعة أو برجماتية مرحلية.
(1)
لا يتسع هذا المقال لبحث أسئلة حقيقة الدين أو ضرورته، وغير ذلك من النظريات المضادة والصادمة تماما لأنصار الديانات بشكل عام، لكنه فقط يحاول محاولة متواضعة الاستناد إلى زعم آخر غير صِدامي يقول مبدأياً إن الدين – أي دين - لا يرتبط ارتباطاً شرطياً لا بالتقدم ولا بالتخلف. وإن أي دين كَمُكون ثقافي للشعوب، بما في ذلك الإسلام، يمكن أن يكون من عوامل شقاء معتنقيه وفقرهم وتخلفهم، أو دافعاً إلى عكس ذلك.
هناك دلائل تاريخية تعزز صحة تلك السردية الكبرى في التاريخ الإسلامي، الأمر في هذه الحالة يتطلب الاستقصاء والتحري عن طبيعة الأقاويل الكبرى المسيطرة في هذا الدين، بالإضافة لبحث طبيعة ممثليه والطبقة الاجتماعية المهيمنة على تفسيره وتقلباتها وعلاقتها بنظام الحكم، وإذا كان هناك أكثر من قولين (أو جهتين أو تفسيرين) كبيريَن لهذا الدين، فأيهما الذي نجح في السيطرة على الحكم تاريخياً وبأية حجج وأسانيد الخ. ثم إن الدين بعد كل ذلك يبقى فقط – وفقط – مجرد واحداً من الدوافع الثقافية للتقدم أو التخلف، لا هو بكل دوافع الانحطاط ولا هو كامل أسباب النهضة، بل يتمازج وينصهر في العديد من الدوافع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الأخرى التي يشكل انصهارها جميعاً المنتج النهائي لكل مرحلة "زمكانية".
(2)
الدعوة مفتوحة إذن للفلسفة والتفكير وإعادة التفكير، لكن المقال يتعامل مع الواقع السياسي الآني وينطلق منه، لذلك نعود للواقع. يشير أغلب الإسلاميين في حماسة رهيبة إلى ماليزيا أو تركيا أو إندونيسيا كتجارب "إسلامية" ناجحة، والحقيقة إني لا أفهم أبدا كيف يتصورون أن تلك التجارب لها علاقة بمفهوم الدين كما هو في رؤوس الإخوان والسلفيين في مصر مثلاً. فهم ساعتها يرتكبون أخطاءً مركّبة مضحكة، في محاولتهم للتدليس وتلبيس العمّة. ولماذا لا يشيرون مثلا لتجربة باكستان رغم إن جُرعة الدين فيها أضعاف تركيا وإندونيسيا؟
لايتسع المقام لمناقشة مُقارَنة تفصيلية بين تجارب كل تلك الدول ومصر، لكن في الأسطر القادمة محاولة مجتزأة ومختصرة للتدليل على عدة أمور، ليس أهمها فشل استدلالات الإسلاميين وسذاجتهم وإحداثهم المعذورين فيه نسبياً، ولكن الأهم؛ التدليل على وجود أشكال وصور عديدة للدين والتديين ومساحة "الإسلام" في الحياة العامة للمجتمعات وعلاقته المتحركة التاريخانية بالتقدم والتخلف.
في الأسطر التالية محاولة للتفصيل.
(3)
لا يشير – أو ربما لا يعرف – الإسلاميون في مصر إن مهاتير محمد في ماليزيا اضطهد حزب الإخوان هناك وسجن رئيسه في قضايا سياسية. ومع ذلك يقول إخوان مصر إن سبب نهضة ماليزيا هو الإسلام. في حين إن السنوات القليلة الماضية أشارت بوضوح إلى أن أي محاولات لاستجلاب الإسلام للسياسة بشكل مُبالغ أو زيادة حصته في الحياة العامة في ماليزيا سيعمل فوراً على إشعال النعرات العرقية والطائفية في مجتمع نعِمَ بالسلم الأهلي والتعايش طوال سنوات طويلة.
في زعم ساذج آخر، قال مرشح رئاسي إسلامي هو حازم أبو إسماعيل إن نهضة ماليزيا سببها تحريم الربا (بنفس السذاجة التي قال بها إن كلمة "بيبسي" تعني ادعموا إسرائيل) في حين إن ما حدث هو أن مهاتير بحث عن حلول اقتصادية أخرى خارج إطار وصفات صندوق النقد الدولي والهيمنة الأمريكية، ودوامة القروض ذات الفائدة العالية، ولم يحرّم ولا يستطيع أصلاً تحريم الربا في ظل النظام الاقتصادي العالمي الحالي. الأكثر سخرية هو إن ما فعله مهاتير هو من عيّنة ما يُطالب به الآن كفار قريش (من اليساريين والعلمانيين) في مصر، ورغم ذلك فإن الإخوان متمسكون بقرض صندوق النقد كحل وحيد، فهم دائما الشيء وعكسه. وعِمّة الإسلام هي دائماً الشيء وعكسه: القرض هنا، واللاقرض هناك.
وفي الواقع، إن التجربة الماليزية ناجحة اقتصادياً، لكنها سيئة فيما يتعلق بالحريات المدنية والسياسية، ولازال هناك نضال مستمر لتكريس مفاهيم الحريات العامة والسياسية، وحرية الرأي والتعبير، وتحجيم سلطوية الدولة وذراعها الأمني، فالتجسس البوليسي واعتقال النشطاء المعارضين يتم هناك بصفة منهجية. وقمع التظاهرات المعارضة هو السلوك المستمر للحكومات المتعاقبة. بل حتى في التجربة الاقتصادية، فإنه لا يمكن تقييمها إجمالاً بمعزل عن سياسات الدعم وعدالة التوزيع، وفي هذه النقطة الأخيرة ثمة استفهامات كثيرة أجاب عليها رئيس الوزراء الحالي نجيب رزاق حين قال إن ماليزيا لا يمكن أن تتحول لنظام الرفاهة، وبمعنى آخر لم يجرؤ على قوله إن الفقراء يجب أن يبقو فقراء ومعدومين رغم ثروات ماليزيا الهائلة. ورغم إن نظام الرفاهة هو بذاته نظام رأسمالي نيوليبرالي طبقته بدرجات متفاوتة معظم دول أوروبا الغربية.
حين يروّج الإسلاميون لماليزيا كتجربة "إسلامية" فإنهم لا يشيرون إلى كل تلك الحقائق المعقدة للواقع الماليزي، وربما يجهلونها بالفعل لأنهم لا يحاولون القراءة أو المعرفة مكتفين بمادة تتحدث عن الشريعة في الدستور الماليزي، وحتى تلك المادة الأخيرة، ونظراً لطبيعة ماليزيا الفيدرالية، فهي تختلف بشكل عميق وجذري عن نوعية الشريعة الموجودة في دستور مصر وأفهام الإسلاميين الراكدة، والتي يرغبون في تطبيقها على تسعين مليون إنسان لمجرد وجود عشرة ملايين صوت لصالح دستورهم أو حتى خمسين مليون مقتنعة بأفكارهم.
****
لا يشير إسلاميو المشرق كثيراً إلى التجربة الإندونيسية بعد الثورة ضد سوهارتو، جزء من السبب أنها مجهولة لأهل المشرق عامة بسبب مركزيتنا الشديدة، وجزء آخر لأنها لم تحقق حتى الآن النجاح الاقتصادي المنشود كماليزيا وتركيا، وبالتالي فهي "أقل إسلاماً" ربما، ولا داعي للإشارة لها كثيراً!
ورغم التحديات الاقتصادية التي تواجه إندونيسيا المتمثلة في معدلات الفساد الرهيبة التي خلفها نظام سوهارتو، لكنها تحرز تقدماً لا بأس به. لا يشير الإسلاميون في مصر أيضاً إلى عزوف معظم الجماعات الإسلامية هناك عن خلط الدين بالسياسة بعد نجاح الثورة، ورغبة أكثرهم في البقاء في حيز "الدعوة". كما لا يشيرون أيضاً إلى التجربة الجيدة جداً في التوافق حول تعديل الدستور الإندونيسي برئاسة شخص ينتمي لأقلية دينية وعرقية في ذات الوقت ليعكس تنوع الشعب رغم إنه أكبر الشعوب الإسلامية من حيث التعداد. لكنه يعترف بـست أقليات دينية، بينما تزيد الأقليات العرقية هناك عن مئتين وخمسين عرقية.
المفارقة اللطيفة إن من ضمن تعديلات الدستور في إندونيسيا إنشاء محكمة دستورية لحماية الدستور وكي تتولى تفسيره، بينما في مصر حرص الإسلاميون على تقليص المحكمة الدستورية، وإعطاء دور للأزهر شبيه بدور محاكم التفتيش والمحكمة الدستورية معاً.
(4)
ًفي تركيا، نسخة كربونية أخرى من عباءة الإسلام التي تنكمش وتتمدد وفقا لقوانين الإخوان، فالإخوان (والظواهري زعيم القاعدة أيضاً) اعتبروا أردوغان علمانياً، وهناك تصريحات قديمة في مطلع الألفية يقول فيها قادة إخوان مصر إن تجربة أردوغان لا تشرف الإخوان ولا تمثل الإسلام، كان هذا منذ حوالي إثني عشر سنة في بداية نجاح أردوغان الانتخابي بعد انشقاقه عن حزب أربكان، ذراع الإخوان في تركيا. وبالتالي كان رد فعل الإخوان معاداته وحرمانه من "العِمّة الإسلامية".
بيْد أنه بعد نجاحه في قيادة البلاد أصبح الآن ممثلاً للإسلام الحضاري في وجهة نظر الإسلاميين، بل ويريدون استيراد "التجربة التركية". لكنك حينما تنجح في إحراج أحد الإسلاميين بذكر تلك المواقف المتقلبة، وتطالبه باستجلاب التجربة التركية كاملة سيقول لك فوراً: "لا! هناك أجزاء في تجربة أردوغان لا تلائم المجتمع المصري". وهو يعني في الأساس الأمور التي تتعلق بالحريات الشخصية الأوسع في المجتمع التركي. وبهذه الطريقة يجيب الإسلامي على نفسه ويُجهز على الأسطورة المؤسسة للإسلام السياسي (دون أن ينتبه)، إذ يصبح الدين حسب الطلب والمزاج. وتطبيقه يعتمد على مدى مقاومة المجتمع ورفضه لسلطوية الراغبين في حشر الجميع في عباءة دينهم على مقياس تفكيرهم.
لا يجيب الإسلاميون على أسئلة أخرى مفصلية، من نوعية ما علاقة حرص أردوغان على كون جيشه جزء من قوات حلف الأطلسي بالإسلام؟ وما علاقة إنكاره لاضطهاد الأرمن بالإسلام؟ وما علاقة استمرار اضطهاد الأكراد في تركيا بالإسلام؟ وماعلاقة سعيه الحثيث للانضمام للاتحاد الأوروبي للإسلام؟. لماذا لا يمثل هذا جوانب في الإسلام إذن إذا كان أردوغان استقبل استقبال الخلفاء العثمانيين لدى الإسلاميين في مصر؟ في تركيا ذاتها، هناك حديث مستمر ومحتدم عن محاولات أردوغان وحزبه للسيطرة على البلاد لصالح أجندة إسلامية غير معلنة.. والحقيقة إن هناك شواهد يمكن أن تفسر بشكل متطرف للتدليل على ذلك. لكن من المبكر الحكم على مدى قبول المجتمع التركي لذلك حين تسفر السلطة عن وجهها الحقيقي، بفرض صحة تلك المزاعم.
لكن الإنصاف يقتضي القول إن استمرار حزب أردوغان في السلطة بُني على الإنجاز الاقتصادي الذي حققه بشكل مبهر. بالإضافة إلى أن المواطن التركي حتى الآن لا يستشعر أي تهديد على حرياته أو حياته الشخصية، رغم إن العلمانيين الأصوليين بالطبع يكرهون رؤية الزيادة في نسبة المحجبات ونسبة المدارس الدينية الخ، إلا أن ذلك يبقى مجرد ضغائن حزبية واختلافات فكرية لا تكفي لشحن العلماني التركي العادي ناهيك عن المواطن غير المسيس، ضد أردوغان.
وفي النهاية، يتجاهل الإسلاميون في مصر عند حديثهم عن تجربة تركيا "الإسلامية" حقيقة تحرجهم كثيراً هي إن حزب أردوغان نجح في إحراز الأغلبية في حين كان إخوان تركيا (أربكان وصحبه) على قيد الحياة في هامش السياسة، عاجزين عن إقناع رجل الشارع بكراهية أردوغان وحرمانية الانضمام للاتحاد الأوروبي، حتى فشلوا في إحراز مقعد واحد في البرلمان على مدار إثني عشر عاماً.
(5)
ما سبق كان محاولة سريعة ومبتسرة لتفكيك الأساطير المنسوجة حول إسلامية التجارب التي يُلصق الإسلاميون بها صفة الدين، لكن الأهم هو دعوة للتفكير مرة أخرى عن دور الدين في المجال العام والسياسة، وتعريفاته وتفسيره.
إن الزعم الأدبي الذي تستند عليه منطلقات الإسلاميين، يتلخص في سرديتين: الأولى إن الإسلام هو الدين الحق الذي أرسله الخالق، ولأنه خالق كل شيء فهو أعرف بما يُصلح حياة البشر، وعلينا لكي ننجو وننجح أن نلتصق بمنهجه وخاتم الرسالات. والسردية الثانية هي إنه لا توجد أمة تتقدم بالتنكر لتاريخها وتراثها.
والحقيقة إن الرد على السردية الأولى موجود جزئياً في رأس المقال، فالدين وتعريفاته وتفسيراته تتعدد وتتشعب، ولا يمكن ببساطة أن تنفي وتتجاهل عشرات التجارب المتخلفة وتنزع عنها "إسلاميتها" بالزعم أنها لم "تلتزم" صحيح الإسلام، في حين تلصق كل تجربة ناجحة بالإسلام حتى ولو لم يزعم أهلها ذلك! وهذا الدين الذي يتفق المسلمون إن الله هو مصدره لا يبقى بهذا النقاء حين يقدمه الإسلاميون – أو غيرهم - للناس مختلطاً بتفسيراتهم "البشرية". وحين يختلط "الإلهي" بـ "البشري" لا يصبح البشري إلهياً ولا حتى نصف إلهي، بل العكس؛ يفقد الإلهي قداسته وتنتهي الفرضيات المنوطة بقدسيته حول فعاليته الأكيدة، لأنه يبقى تجربة بشرية تاريخانية قابلة للنجاح أو الفشل.
أمّا السردية الثانية، فهي حق يراد به باطل، صحيح أنه لا يمكن لأمّة أن تتقدم بالتنكر لتاريخها وثقافتها، لكن هذا التاريخ وتلك الثقافة أيضاً متنوعة وملوّنة ومتعددة بشكل يعجز أحاديو التفكير عن رؤيته أو الاستفادة منه، أو حتى الاعتراف به، ناهيك عن إن التاريخ غير مقدس أصلاً ويمكن الإضافة له والبناء عليه بشكل لا محدود.